مثل الحمَّالين والرجلِ الذي أصابَ كنزًا
ومَنِ استَكثَرَ من جَمعِ الكُتُبِ وقِراءَةِ العلومِ من غيرِ إعمالِ الرَّويَّةِ فيما يَقرَأُهُ كانَ خَليقًا أن لا يُصيبَهُ إلاَّ ما أصابَ الرجلَ الذي زَعَمَتِ العلماءُ أنَّه اجتازَ ببعضِ المَفاوِزِ فَظَهَرَ له مَوضِعُ آثارِ كَنزٍ. فَجَعَلَ يَحفِرُ ويَطلُبُ فَوَقَعَ علي شيءٍ من عَينٍ ووِرْقٍ فقالَ في نفسِهِ: إن أنا أخَذتُ في نَقلٍ هذا المالِ قليلاً قليلاً طالَ عَلَيَّ وقَطَعَني الاشتِغالُ بنقلِهِ وإحرازِهِ عنِ اللَّذَّةِ بما أصَبتُ منه. ولكن سأستأجِرُ أقوامًا يَحمِلونَهُ إلي منزلي وأكونُ أنا آخِرَهُمْ. ولا يكونُ بَقِيَ ورائي شيءٌ يُشغَلُ فِكري بنقلِهِ. وأكونُ قد استَظهَرْتُ لنفسي في إراحَةِ بَدَني عنِ الكَدِّ بيَسيرِ أُجرَةٍ أُعطيها لهم.
ثم جاء بالحمَّالينَ فجَعَلَ يُحَمِّلُ كلَّ واحدٍ منهم ما يُطيقُ فينطلِقُ به إلي منزلِهِ هو فيفوزُ به، حتي إذا لم يبقَ مِنَ الكَنزِ شيءٌ انطلَقَ خَلفَهُمْ إلي منزلِهِ فلم يَجِدْ فيه مِنَ المالِ شيئًا لا كثيرًا ولا قليلاً. وإذا كلُّ واحدٍ مِنَ الحمَّالينَ قد فازَ بما حَمَلَهُ لنفسِهِ. ولم يكنْ للرجلِ من ذلك إلاَّ العَناءُ والتَّعَبُ لأنَّه لم يُفَكِّرْ في آخِرِ أمرِهِ
مثل طالبِ العلمِ والصَحيفةِ الصفراء
وكذلك مَن قَرَأَ هذا الكتابَ ولم يَفهَمْ ما فيه ولم يَعلَمْ غَرَضَهُ ظاهِرًا وباطِنًا لم يَنْتَفِعْ بما يَبدو له من خَطِّهِ ونَقشِهِ. كما لو أنَّ رجلاً قُدِّمَ له جَوزٌ صحيحٌ لم يَنتَفِعْ به إلاَّ أن يَكسِرَهُ ويَستَخرِجَ ما فيه. وكانَ أيضًا كالرجلِ الذي طَلَبَ عِلمَ الفَصيحِ من كلامِ الناسِ. فأتي صديقًا له مِنَ العلماءِ لَه عِلمٌ بالفَصاحَةِ فأعلَمَهُ حاجَتَهُ إلي عِلمِ الفَصيحِ. فَرَسَمَ له صديقُهُ في صحيفَةٍ صَفراءَ فَصيحَ الكلامِ وتَصاريفَهُ ووُجوهَهُ. فانصَرَفَ بها إلي منزلِهِ فَجَعَلَ يُكثِرُ قِراءَتَها ولا يقِفُ علي مَعانيها ولا يَعلَمُ تأويلَ ما فيها حتي استَظهَرَهَا كلَّها، فاعتَقَدَ أنَّه قد أحاطَ بعِلمِ ما فيها.
ثم إنَّه جَلَسَ ذاتَ يومٍ في مَحفِلٍ من أهلِ العِلمِ والأدَبِ فأخَذَ في مُحاوَرَتِهِمْ فَجَرَتْ له كلمَةٌ أخطأَ فيها. فقالَ له بعضُ الجماعَةِ: إنَّك قد أخطأتَ والوَجهُ غيرُ ما تَكَلَّمتَ به. فقالَ: كيفَ أُخطِئُ وقد قَرَأتُ الصَّحيفَةَ الصَّفراءَ وهي في منزلي? فكانت مقالَتُهُ هذه أوجَبَ للحُجَّةِ عليه وزادَهُ ذلك قُربًا مِنَ الجَهلِ وبُعدًا مِنَ الأدَبِ
مثل ربِّ البيت والسارق
ثم إنَّ العاقِلَ إذا فَهِمَ هذا الكتابَ وبَلَغَ نهايَةَ عِلمِهِ فيه يَنبَغي له أن يَعمَلَ بما عَلِمَ منه لِيَنتَفِعَ به ويَجعَلَهُ مِثالاً لا يَحيدُ عنه. فإذا لم يَفعَلْ ذلك كانَ مَثَلُهُ كالرجلِ الذي زَعَموا أنَّ سارِقًا تَسَوَّرَ عليه وهو نائِمٌ في منزلِهِ، فعَلِمَ به فقالَ: واللهِ لأسكُتَنَّ حتي أنظُرَ ماذا يَصنَعُ ولا أذْعَرُهُ ، فإذا بَلَغَ مُرادَهُ قُمتُ إليه فَنَغَّصتُ ذلك عليه. ثم إنَّه أمسَكَ عنه وَجَعلَ السَّارِقُ يَتَرَدَّدُ وطالَ تَرَدُّدُهُ في جَمعِهِ ما يَجِدُهُ. فغَلَبَ الرجلَ النُّعاسُ فنامَ وفَرَغَ اللِّصُّ مِمَّا أرادَ وأمكَنَهُ الذَّهابُ. واستيقَظَ الرجلُ فَوَجَدَ اللِّصَّ قد أَخَذ المَتاعَ وفازَ به. فأقبَلَ علي نفسِهِ يلومُها وعَرَفَ أنَّه لم يَنتَفِعْ بعِلمِهِ باللِّصِّ إذ لم يَستَعمِلْ في أمرِهِ ما يجبُ.
مثل الإخوةِ الثلاثة
وقد يَنبَغي للنَّاظِرِ في كتابِنا هذا أن لا تكونَ غايتُهُ التَّصَفُّحِ لِتَزاويقِهِ ، بل يُشرِفُ علي ما يَتَضَمَّنُ مِنَ الأمثالِ حتي يأتِيَ عليه إلي آخِرِه، ويَقِفُ عند كلِّ مَثَلٍ وكلمَةٍ، ويُعمِلُ فيها رَوِيَّتَهُ، ويكونُ مِثلَ ثالِثِ الإخوَةِ الثلاثَةِ الذينَ خَلَّفَ لهم أبوهُمُ المالَ الكثيرَ فَتنازَعوهُ بينهم. فأمَّا الاثنانِ الكبيرانِ فإنَّهُما أسرَعا في إتلافِهِ وإنفاقِهِ في غيرِ وجهِهِ. وأمَّا الصَّغيرُ فإنَّه عندَما نَظَرَ ما صارَ إليه أخَواهُ من إسرافِهِما وتَخَلِّيهِما مِنَ المالِ أقبَلَ علي نفسِهِ يُشاوِرُها وقالَ: يا نَفسِ إنَّما المالُ يَطلُبُهُ صاحِبُهُ ويجمعُهُ من كلِّ وجهٍ لبقاءِ حالِهِ وصَلاحِ معاشِهِ ودُنياهُ وشرفِ منزلتِهِ في أعْيُنِ الناسِ، واستِغنائِهِ عمَّا في أيديهِم، وصَرفِهِ في وجهِهِ من صِلَةِ الرَّحِمِ، والإنفاقِ علي الولَدِ والإفضالِ علي الإخوانِ. فمَن كانَ له مالٌ ولا يُنفِقُهُ في حُقوقِهِ كانَ كالذي يُعَدُّ فقيرًا وإن كانَ موسِرًا. وإن هو أحسَنَ إمساكَهُ والقيامَ عليه لم يَعدَمِ الأمرَينِ جميعًا من دُنيا تَبقي عليه وحَمدٍ يُضافُ إليه. ومتي قَصَدَ إنفاقَهُ علي غيرِ الوُجوهِ التي حُدَّتْ لم يَلبَثْ أن يُتلِِفَهُ ويبقي علي حَسرَةٍ وندامَةٍ. ولكنِ الرأيُ أن أُمسِكَ هذا المالَ، فإني أرجو أن يَنفَعَني الله به ويُغنِيَ أخَوَيَّ علي يَدي، فإنَّما هو مالُ أبي ومالُ أبيهِما. وإنَّ أولي الإنفاقِ علي صِلَةِ الرِّحِمِ وإن بَعُدَتْ، فكيفَ بأخوَيَّ! فأنفَذَ فأحضَرَهُما وشاطَرَهُما مالَهُ
مثل الصيَّادِ والصَدَفة
وكذلك يجبُ علي قارِئ هذا الكتابِ أن يُديمَ النَّظَرَ فيه من غيرِ ضَجَرٍ، ويَلتَمِسَ جواهِرَ معانيهِ، ولا يَظُنَّ أنَّ نَتيجَتَهُ إنَّما هي الإخبارُ عن حِيلَةِ بَهيمَتَينِ أو مُحاوَرَةِ سَبُعٍ لثورٍ، فينصَرِفَ بذلك عنِ الغَرَضِ المقصودِ، ويكونَ مَثَلُهُ مَثَلَ الصَّيَّادِ الذي كانَ في بعضِ الخُلُجِ يَصيدُ فيه السَّمَكَ في زَورَقٍ. فَرأي ذاتَ يومٍ في عَقيقِ الماءِ صَدَفَةً تَتَلألأُ حُسنًا فَتَوَهَّمَها جَوهَرًا له قيمَةٌ. وكان قد ألقي شَبَكَتَهُ في البحرِ فاشتَمَلَتْ علي سَمَكَةٍ كانت قوتَ يومِهِ فخَلاَّها وقَذَفَ نفسَهُ في الماءِ ليأخُذَ الصَّدَفَةَ. فلمَّا أخرَجَها وجَدَها فارِغَةً لا شيءَ فيها ممَّا ظَنَّ. فندِمَ علي تَركِ ما في يدِهِ للطَّمَعِ وتأسَّفَ علي ما فاتَهُ. فلمَّا كانَ اليومُ الثاني تَنَحَّي عن ذلك المكانِ وألقي شبكتَهُ، فأصابَ حوتًا صغيرًا ورأي أيضًا صَدَفَةً سنيّة فلم يَلتَفِتْ إليها وساءَ ظَنُّهُ بها فَتَرَكَها واجتازَ بها بَعضُ الصَّيَّادينَ فأخَذَها فَوجَدَ فيها دُرَّةً تُساوي أموالاً.
وكذلك الجُهَّالُ علي إغفالِ أمرِ التَّفَكُّرِ في هذا الكتابِ والاغتِرارِ به وتَركِ الوُقوفِ علي أسرارِ معانيهِ والأخذِ بظاهِرِهِ دونَ الأخذِ بباطِنِهِ، ومَن صَرَفَ هِمَّتَهُ إلي النَّظَرِ في أبوابِ الهَزلِ منه فهو كرجلٍ أصابَ أرضًا طَيِّبَةً حُرَّةً وحَبًّا صَحيحًا فَزَرَعَها وسَقاها حتي إذا قَرُبَ خيرُها تَشاغَلَ عنها بجَمعِ ما فيها مِنَ الزَّهرِ وقَطعِ الشَّوكِ، فأهلَكَ بتَشاغُلِهِ ما كانَ أحسَنَ فائِدَةً وأجمَلَ عائِدَةً.
ويَنبَغي للنَّاظِرِ في هذا الكتابِ أن يَعلَمَ أنَّه يَنقَسِمُ إلي أربعَةِ أغراضٍ: أحَدُها ما قُصِدَ فيه إلي وضعِهِ علي ألسِنَةِ البَهائِمِ غيرِ النَّاطِقَةِ من مُسارَعَةِ أهلِ الهَزلِ مِنَ الشُّبَّانِ إلي قِراءَتِهِ فتُستَمالُ به قلوبُهُمْ. لأنَّ هذا هو الغَرَضُ بالنَّوادِرِ من حِيَلِ الحيواناتِ. والثاني إظهارُ خَيالاتِ الحيواناتِ بصُنوفِ الأصباغِ والألوانِ ليكونَ أُنْسًا لقُلوبِ الملوكِ ويكونَ حِرصُهُمْ عليه أشَدَّ للنُزهَةِ في تلك الصُّوَرِ. والثالثُ أن يكونَ علي هذه الصِّفَةِ فَيَتَّخِذَهُ الملوكُ والسُّوقَةُ فيكثُرَ بذلك انتِساخُهُ ولا يَبطُلَ فَيَخْلُقَ علي مُرورِ الأيامِ، ولينتَفِعَ بذلك المُصَوِّرُ والنَّاسِخُ أبدًا. والغَرَضُ الرابعُ وهو الأقصي مخْصوصٌ بالفَيلَسوفِ خاصَّةً