تحت القصف : ( بيروت . . لا )
أثناء قصف بيروت الوحشي ، كان محمود درويش يعيش حياته الطبيعية ، يخرج ويتنقل بين الناس تحت القصف ، لم يكن يقاتل بنفسه ، فهو لم يعرف يوما كيف يطلق رصاصة ، لكن وجوده ـ وهو الشاعر المعروف ـ بين المقاتلين كان يرفع من معنوياتهم ، وقد أثر قصف بيروت في درويش تأثيرا كبيرا على مستويات عديدة .
فعلى المستوى النفسي كانت المرة الأولى التي يحس فيها بالحنق الشديد ، على الرغم من إحباطاته السابقة ، وعلى المستوى الشعري أسهم هذا القصف في تخليه عن بعض غموض شعره لينزل إلى مستوى أي قارئ ، فأنتج قصيدته الطويلة الرائعة " مديح الظل العالي " ، معتبرا إياها قصيدة تسجيلية ترسم الواقع الأليم ، وتدين العالم العربي ، بل الإنسانية كلها .
وأسفر القصف عن خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت ، بينما فضّل محمود درويش البقاء في بيروت ، معولا على عدم أهميته بالنسبة للصهاينة ، لكنه وبعد عشرين يوما من بقائه علم أنه مطلوب للتصفية ، فاستطاع أن يتسلل هاربا من بيروت إلى باريس ليعود مرة أخرى إلى حقيبته وطنا متنقلا ومنفى إجباريا . وبين القاهرة وتونس وباريس عاش محمود درويش حبيس العالم المفتوح معزولا عن جنته الموعودة . . فلسطين .
لقد كان الأمل في العودة هو ما يدفعه دائما للمقاومة ، والنضال والدفع إلى النضال .
كان محمود درويش دائما يحلُم بالعودة إلى أرضه يشرب منها تاريخها ، وينشر رحيق شعره على العالم بعد أن تختفي رائحة البارود ، لكنه حلم لم يتحقق حتى الآن ! .
اتفاقات التسوية " لماذا تطيل التفاوض يا ملك الاحتضار " ؟
في عام 1993 وأثناء تواجده في تونس مع المجلس الوطني الفلسطيني ، أُتيح لمحمود درويش أن يقرأ اتفاق أوسلو ، واختلف مع ياسر عرفات لأول مرة حول هذا الاتفاق ، فكان رفضه مدويا ، وعندما تم التوقيع عليه بالأحرف الأولى قدم استقالته من المجلس الوطني الفلسطيني ، وشرح بعد ذلك أسباب استقالته قائلا: " إن هذا الاتفاق ليس عادلا ؛ لأنه لا يوفر الحد الأدنى من إحساس الفلسطيني بامتلاك هويته الفلسطينية ، ولا جغرافية هذه الهوية إنما يجعل الشعب الفلسطيني مطروحا أمام مرحلة تجريب انتقالي . . وقد أسفر الواقع والتجريب بعد ثلاث سنوات عن شيء أكثر مأساوية وأكثر سخرية ، وهو أن نص أوسلو أفضل من الواقع الذي أنتجه هذا النص " .
وعاد درويش في يونيو 1994 إلى فلسطين ، واختار الإقامة في رام الله ، وعانى مذلة الوجود في أرض تنتمي له ، ويحكمها ـ ولا يحكمه ـ فيها شرطي إسرائيلي . . واستمر يقول الشعر تحت حصار الدبابات الإسرائيلية ، إلى أن تم اجتياحها أخيرا ، ولم يسلم هو شخصيا من هذا الاجتياح ، حيث داهمت الشرطة الإسرائيلية منزله ، وعبثت بأسلحته : أوراقه وأقلامه .
رحلة الإبداع " مع الشعر مجيئي … مع الشعر رحيلي "
" إذا كنا هامشيين إلى هذا الحد فكريا وسياسيا فكيف نكون جوهريين إبداعيا ؟ "
هكذا أجاب درويش ، وهكذا يرى نفسه وسط عالم من الإبداع الجيد والمبدعين " الجوهريين " ، رغم التقدير الذي يلقاه داخل وطننا العربي وخارجه الذي بلغ ذروته حين قام وفد من البرلمان العالمي للكتاب يضم وول سوينكا وخوسيه ساراماغو وفينثنثو كونسولو وبرايتن برايتنباك وخوان غويتيسولو إلى جانب كريستيان سالمون سكرتير البرلمان 24 مارس 2002 بزيارة درويش المحاصر في رام الله مثل ثلاثة ملايين من مواطنيه ، وهذه الخطوة ـ زيارة وفد الأدباء لفلسطين ـ التي لم تستغل جيدا رغم أنها حدث في منتهى الأهمية تنم عن المكانة التي يحتلها درويش على خريطة الإبداع العالمي .
وعلى هامش الزيارة كتب الكاتب الأسباني خوان غويتسولو مقالا نشره في عدد من الصحف الفرنسية والأسبانية اعتبر فيه محمود درويش أحد أفضل الشعراء العرب في القرن الحالي ويرمز تاريخه الشخصي إلى تاريخ قومه ، وقال عن درويش إنه استطاع : تطوير هموم شعرية جميلة ومؤثرة احتلت فيها فلسطين موقعا مركزيا ، فكان شعره التزاما بالكلمة الجوهرية الدقيقة ، وليس شعرا نضاليا أو دعويا ، هكذا تمكن درويش ، شأنه في ذلك شأن الشعراء الحقيقيين ، من ابتكار واقع لفظي يرسخ في ذهن القارئ باستقلال تام عن الموضوع أو الباعث الذي أحدثه .
وكان درويش قد شارك في الانتفاضة الأخيرة بكلماته التي لا يملك غيرها بديوان كتبه في أقل من شهر عندما كان محاصرا في رام الله ، وأعلن درويش أنه كتب هذا الديوان ـ الذي أهدى ريعه لصالح الانتفاضة ـ حين كان يرى من بيته الدبابات والجنود, ويقول: " لم تكن لدي طريقة مقاومة إلا أن أكتب, وكلما كتبت أكثر كنت أشعر أن الحصار يبتعد, وكانت اللغة وكأنها تبعد الجنود لأن قوتي الوحيدة هي قوة لغوية " .
وتابع قائلا " كتبت عن قوة الحياة واستمرارها وأبدية العلاقة بالأشياء والطبيعة . الطائرات تمر في السماء لدقائق ولكن الحمام دائم ، كنت أتشبث بقوة الحياة في الطبيعة للرد على الحصار الذي أعتبره زائلا ، لأن وجــود الدبابة في الطبيعة وجود ناشز ، وليس جزءا من المشــهد الطبيعي ".
اللافت أن درويش لم يخاطب رئيس الوزراء الإسرائيلي إريل شارون في أي قصيدة من قصائد الديوان . وقال درويش بشأن ذلك: إن شارون " لا يستحق قصيدة فهو يفسد اللغة . . هو متعطش للدماء ولديه حقد كبير, ولكن المشكلة في الدعم الأميركي الذي يمنحه بعد كل مجزرة وساما بأنه رجل سلام " .
وما زال الشاعر ابن الستين ربيعا متفجرا يعيش تحت سماء من دخان البارود الإسرائيلي وخلف حوائط منزل صغير مهدد في كل وقت بالقصف أو الهدم ، وبجسد مهدد في كل وقت بالتحول إلى غربال . . ورغم ذلك فإن كل هذا يقوي من قلمه ، ويجعله أشد مقاومة .